فصل: الوظائف العامة مبدأ تقره الدساتير والقوانين في مختلف البلدان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الوظائف العامة مبدأ تقره الدساتير والقوانين في مختلف البلدان:

لقد تأكد حق المساواة بين الأفراد في تولي الوظيفة العامة وفي جميع الحقوق والواجبات العامة كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من الفقه الإسلامي، وهو مبدأ تقره مختلف الأنظمة والقوانين في مختلف بلدان العالم، وكذلك الاتفاقات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، فقد سجل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي اعتمدته الجمعية العامة في 10/ 12 / 1948م هذه المبادئ والحقوق، فنصت المادة (21) منه على الآتي:
? لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده إما مباشرة أو بواسطة ممثلين يختارون اختياراً حراً وأن لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة، وسجل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية بالمادة (25) على أنه يكون لكل مواطن دون أي وجه من وجوه التمييز الحقوق التالية التي يجب أن تتاح له في سلطة التمتع بها دون قيود غير معقولة:
أ- أن يشارك في الشئون العامة مباشرة وإما بواسطة ممثلين يُختارون في حرية.
ب- أن يَنتخِب ويُنتخَب في انتخابات نزيهة.
ج- أن تتاح له على قيد المساواة عموماً مع سواه فرصة تَقلُّد الوظائف العامة في بلده.
كما سجلت وثيقة منظمة المؤتمر الإسلامي لحقوق الإنسان بالمادة (21) على أن (لكل إنسان الحق في أن يشارك في اختيار حكامه ومراقبتهم ومحاسبتهم وفق ما أمر الله تعالى، ولكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشئون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما له الحق في تقلد الوظائف العامة وفق الشروط المرعية).
وسبق أن أشرنا إلى ما نص عليه دستور الجمهورية اليمنية في أن لكل مواطن الحق في المشاركة في الأمور العامة. ونص القانون رقم (19) لسنة 1991م اليمني بشأن الخدمة المدنية بالمادة (12) أن الوظيفة العامة تكليف، وأنها أساس في تنفيذ التنمية، وأنه يقوم شغل الوظيفة العامة على مبدأ تكافؤ الفرص والحقوق المتساوية لجميع المواطنين دون أي تمييز، وتكفل الدولة وسائل الرقابة على تطبيق هذا المبدأ.
وفي المملكة العربية السعودية نجد أن نظام الموظفين العام الصادر بالمرسوم الملكي رقم (49) بتاريخ 10/ 7/1397هـ بالموافقة على نظام الخدمة المدنية ينص في مادته الأولى (أن الجدارة هي الأساس في اختيار الموظفين لشغل الوظيفة العامة) أي أن الكفاءة وحسن السلوك هي الأساس في اختيار الموظفين، وأن الكل متساوون، وأن الكفاءة والجدارة بما يحمله الإنسان من مثل وأخلاق ومؤهلات هو الأساس، ونص في الفقرة الثانية على أن تصنيف الوظائف بتجميعها فئات تتضمن كل فئة الممثلة في طبيعة العمل ومستوى الواجبات والمسئوليات والمؤهلات المطلوبة لشغلها، وتوصيف الفئات طبقاً لما ورد في المادة الثالثة من ذات النظام، وصرحت المادة (3) من النظام الأساسي للحكم بالآتي: (يقوم الحكم بالمملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية).
وفي المملكة الأردنية الهاشمية نجد أن الدستور قد نص بالمادة (22) على أن لكل أردني حقاً في تولي الوظائف العامة بالشروط المعينة بالقوانين والأنظمة، وأن التعيين للوظائف العامة من دائمة ومؤقتة في الدولة والإدارات الملحقة بها والبلديات يكون على أساس الكفاءة والمؤهلات.
وفي جمهورية مصر العربية نجد أن الدستور بالمادة الرابعة عشرة قد نص على أن الوظائف العامة حق للمواطنين، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم بأداء واجبهم في رعاية مصالح الشعب.
وفي العراق نجد أن الدستور بالمادة (30) قد نص على أن المساواة في الوظائف العامة يكفلها القانون.
ولا تكاد تختلف الدساتير والقوانين على هذا المبدأ، وهو مبدأ إسلامي قبل أن يكون مبدأًً إنسانياً، فالقرآن يقرر وحدة الجنس البشري كما يقول جل شأنه: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ}، ويقول: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، ويقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
وإذا كانت البشرية أبناء أب وأم واحدة فإنه يكون المساواة في الوظائف العامة أمراً بديهياً، فهذا ابن أم مكتوم وهو رجل أعمى يعاتب الله رسوله فيه فيقول جل شأنه: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أو يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}، وهذه السورة دليل من دلائل صدق النبوة ومظهر من مظاهر الإخاء في المجتمع، وتواضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وتقبله للعتاب وتلاوته لهذا القرآن دليل على حسن سياسته. وقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا رأى هذا الرجل- ابن أم مكتوم- بعد هذا العتاب الرباني بسط له رداءه، نقل القرطبي في تفسيره عن الثوري قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه ويقول: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي». ويقول له: «هل من حاجة؟» واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين غزاهما، قال أنس رأيته يوم القادسية راكباً عليه درع وعليه راية سوداء.
وبهذا يتضح سماحة الإسلام وتكريمه للإنسان وها هو ابن أم مكتوم يشارك في الحياة العامة ويستخلفه الرسول على المدينة ولم يمنع العمى من القيام بدوره. والشورى هي نهج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ودربه الذي يسير عليه وليس شكل الشورى الذي جاءت به الشريعة الإسلامية مصبوباً في قالب حديد، وإنما هو متروك للصورة الملائمة لكل زمان ومكان لتحديد ذلك الطابع في حياة الجماعة البشرية كلها وليست أشكال جامدة وليست نصوص حَرْفية وإنما هي روح ينشأ عنها استقرار الحقيقة وقيامها وسعادة البشرية وازدهارها. قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

.المبحث الثالث: الشورى في القضاء والحكم:

من المسلم به ومن المعلوم أن إقامة العدل من أغلى وأسمى مقومات الحياة، وأن الحكم به من أقوى الوسائل التي يرتفع بها الظلم ويسود في ظلها المحبة والإخاء بين الناس، ولهذا قيل بالعدل وحده تُصان القيم وتستقر المبادئ ويتضاعف شعور الإنسان بالانتماء لوطنه، ويعلو بناء الإنسان، وتلك غاية الغايات وقمة الأهداف لأي مجتمع متحضر ينشد حاضراً أكثر أمناً واستقراراً، ويستهدي مستقبلاً أكثر رفعة وازدهاراً، وللعدل معنى جليل تطمئن إليه النفوس وترتاح إليه الأفئدة وتنطلق به ملكات الإنسان فيأمن به على نفسه وماله فيبدع وينتج ويسهم في حل المشكلات التي تعوق مسيرة أمته، وتحقيق العدل كان مهمة الرسل والأنبياء وهو رسالة السماء إلى الأرض وهو وظيفة الحكم الصالح ودعامته المكينة وعزته المشرقة.
ولما كان العدل بهذه المكانة فقد ابتعث الله به رسله إلى الكافة من خلقه وخاطب الله تعالى خاتم رسله بقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}، والشعور بالرغبة في إقامة العدل مستقر في النفس البشرية التي تؤمن بأن العدل هو أمر الله وصفته واسم من أسماء شريعته، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} وقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} وهكذا يتوفر العدل في المصدر والتشريع والقضاء والتنفيذ وذلك ليس خطاباً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو خطاب للأمة المؤمنة كلها.
والآيات التي تتحدث عن العدل كثيرة، فهو بلا شك أساس لعمران البلاد وأساس لبناء الحضارات في كل زمان ومكان، فربنا جل وعلا يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا}، ويقول جل شأنه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، ويقول جل شأنه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}، ويحذر سبحانه وتعالى من المحاباة والظلم لأن ميزان العدل لا يميل مع الهوى ولا يتزحزح مع العصبية ولا يحيف مع الشنئان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أو الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
ولهذا قيل إن للعدل قيمة لا تنطوي بمجرد عدم إيقاع الضرر على الغير وإعطاء كُلٍ ماله، وإنما هي شيء أعمق من ذلك وأكثر، هي تحقيق التوازن اللازم بين المصالح المتعارضة بغية كفالة نظام مأمون لسكينة المجتمع الإنساني وسلامته وسعياً به صوب الاستقرار والتقدم، ومن ثم كان العدل عنصراً حركياً، ويقتضي السعي الدائب والدائم والحثيث نحو معرفة ما يستحقه كُلٌ وكيف يعطى له.
وإذا كان العدل لا يجيء ولا يتحقق من تلقاء نفسه، وليس للإنسان أن يبتغيه لنفسه فإنها تكون الغلبة للفرد دون الحق، وحينئذ تعم الفوضى التي لا تبقي ولا تذر، وإنما تحقيق العدل هو واجب الدولة ورسالتها التي يجب أن تتجرد له سلطة من سلطاتها وهي القضاء في نظام شامل متكامل مستقل محايد ينهض بأعباء هذه الرسالة التي لا تستقيم أحوال البشرية دونها، ولهذا كان القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة كما يقول الخليفة الراشد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه.
وقد حمل القضاء أمانة تحقيق العدل منذ فجر التاريخ، فإلى ساحة القضاء يهرع الناس جميعاً يلتمسون العدل والنصفة وهم عنده سواء لا قوي لديه ولا ضعيف ولا شريف أمامه ولا مشروف، لا يرهب أحداً لقوته ولا يستخف بحق أحد لهوانه وضعف قدرته، فهو حصن الأمان لكل من داهمه الخوف، وهو النظام الذي يصل به العدل إلى كل من اجترأ على الحق، وإذا كان القضاة هم ضمير الأمة ومعقد رجائها في إعلاء كلمة الحق والعدل التي أودعها خالقهم أمانة مقدسة بينهم لينطقوا في أمرها بعد بحث وكد ونصب وعناء فإنه حري بهم أن يسلكوا مسلك الشورى التي أمر الله بها؛ لأن القضاء من جملة الأمور التي أمر الله أن يُتشاور فيها، بل هو أهمها فيما التبس من الأمور وفيما لا يوجد فيه نص واضح وقاطع وما أكثر الملتبسات والمشتبهات، فالواجب على القاضي أن يبذل الجهد في فهم النص وفهم الواقعة وأن يشاور أيضاً أهل العلم والصلاح والفطنة لما لذلك من أثر في استجلاء الحقيقة والتثبت في فهم النص وفهم الواقعة، ولقد اعتبر بعض العلماء المشاورة في القضاء مندوب إليها، ونقل عن جماعة من العلماء القول بالوجوب، ونقل القرطبي أن ابن عطية قال: من لم يستشر أهل العلم والدين فعزله واجب.
قلت: الظاهر أن الشرع قد حث على المشاورة في جميع الأمور التي نص فيها فما بالك في القضاء، ففي سورة آل عمران يقول تعالى مخاطباً نبيه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، وفي سورة الشورى يقول سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}.
ولهذا فإنه ينبغي للقاضي أن يشاور أهل العلم والصلاح وأن يستعين برأيهم، فالقاضي إنسان يصيب ويخطئ وقد يتأثر ببعض عواطفه وأهوائه فيميل في قضائه إلى بعض أطراف الخصوم بما يقوض أركان العدل، ولقد بلغ من حرص الدولة الإسلامية أن أوجدت في بعض المحاكم ما يسمى بشهود القضاء أو العدول، وكانت مهمتهم هي الشهادة على بعض الأحكام، وسيجد المتتبع في كتب الفقه والتراجم الكثير من ذلك فإن القضاة كانوا يتخذون شهوداً منهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر عتيق الصباغ وأبو الطاهر الذهلي وعبدالله بن ثوبان وغيرهم، ويقول الدكتور محمد عبدالرحمن البكر أنه وصل الأمر إلى حد أن أصبحت الشورى في بعض العصور وظيفة يتخصص لها بعض العلماء كيحيى بن وافد اللخمي وأبي الأصبغ فيما يشبه أن يكون جهازاً لمراقبة القضاة.
أما الشهود الذين كانوا يؤلفون جزءاً من المحكمة بحيث لا تنعقد إلا بهم حيث كانوا يجلسون على يمين القاضي ويساره ليشهدوا على ما يجري من الدعاوي والأحكام فقد أوجب بعض الفقهاء حضور الشهود، قال ابن فرحون (ومنها إحضاره الشهود العدول في مجلس قضاءه) قال المازري: يؤمر القاضي بذلك ويتأكد الأمر به على القول بأن القاضي لا يقضي بعلمه فيما أمر به الخصم في مجلسه، وجاء في مواهب الجليل: وإذا كان المشهور أن القاضي إذا سمع إقرار الخصم لا يحكم عليه حتى يشهد عنده بإقراره شاهدان فيكون إحضار الشهود واجباً وإلا لا فائدة.
قلت: وليست تلك الغاية التي تتوخى فحسب بل إن وجود الشهود العدول من العلماء ليكونوا مستشارين قد يكون في بعض الحالات ضرورة، فإن القاضي العادل لا يستغني عن وجود مثل هؤلاء قط، فالمتتبع للآثار الفقهية والقضائية التي درج عليها الخلفاء الراشدون سيجد أنهم كانوا يحضون على التشاور مع وجهاء الصحابة وأهل الرأي، وذلك من أجل التحري في إقامة العدل والوصول إلى الحق، وهذا هدف من أهداف علانية الجلسات أيضاً عند التقاضي، وفي أخبار القضاة لوكيع كانت القضاة لا تستغني أن يجلس إليهم بعض العلماء، وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله تعالى فإن وجد ما يقضي به بينهم قضى به وإن لم يجد وعلم في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة قضى بها فإن أُعيي خرج فسأل المسلمين وقال: أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكرون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قضاء فيقول أبو بكر الحمد الله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فإن أعياه أن يجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سنة جمع خيار الناس ورءوسهم فاستشارهم فإن أجمع أمرهم على رأي قضى به، وكان عمر رضي الله عنه يفعل ذلك فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة نظر هل كان لأبي بكر فيه قضاء فإن وجد أبا بكر قضى فيه بقضاء قضى به وإلا دعا رءوس المسلمين فإن اجتمعوا على أمر قضى به، ولفظ الدارمي (فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جمع رءوس الناس وخيارهم فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضى به) وقد أورد هذا الحديث الحافظ ابن حجر في فتح الباري مختصراً وعزاه للبيهقي وصحح إسناده وقال (وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك كما تقدم أن القراء كانوا أصحاب مجلس عمر ومشاورته) وعن شريح القاضي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إليه إن جاءك شيء في كتاب الله فاقض به ولا يلفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله فاقض بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله وسنة رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به.
وقد استشار عمر رضي الله عنه في حد الخمرة لأنه ليس مقداره سنة نبوية وإنما كان المرء إذا سكر أتي به فيضربونه بأيديهم ونعالهم نحواً من أربعين، فلما تولى عمر استشار الصحابة رضوان الله عليهم لكثرة وقوع الناس فيه فأشاروا عليه أن يحده حد المفتري لأنه إذا شرب هذى وإذا هذى افترى فكان يحد ثمانين جلدة في عهد عمر، ثم لما تولى علي رضي الله عنه أمر بالسكران أن يضرب فلما بلغ الأربعين قال للجلاد أمسك جلد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أربعين وجلد أبو بكر رضي الله عنه أربعين وجلد عمر رضي الله عنه في صدر خلافته أربعين ثم أمضى عليه ثمانين وكل سنة وهذا (أي الأربعين) أحب إلي.
كما أن عمر رضي الله عنه استشار في الجناية على الجنين في بطن أمه ويسمى بالإملاص والسقط، فعرض الأمر مستشيراً فيه حيث قال: أيكم سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه شيئاً؟ قال المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: فقلت أنا، فقال: ما هو فقلت سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فيه غرة عبدٌ أو أمة» فقال له عمر رضي الله عنه: لا تبرح حتى تأتيني بالمخرج فيما قلت، فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به فشهد معي أنه سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فيه غرة عبد أو أمة».
وروى الإمام مالك في موطئه عن عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه تسأل ميراثها فقال لها أبو بكر: مالك في كتاب الله شيء وما علمت لك في سنة رسول الله شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها السدس فقال مثلما قال المغيرة أي محمد بن مسلمة الأنصاري فأنفذه لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهذه الجدة هي أم الأم ثم جاءت الجدة الأخرى وهي أم الأب فلم يرد أن يعطيها أبو بكر شيئاً فقال له رجل من الأنصار: أما إنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها يرث فجعل أبو بكر السدس بينهما.
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى استشارة عمر رضي الله عنه في امرأة استقت راعياً فأبى أن يسقيها حتى تمكنه من نفسها ففعلت، وكان رأي عمر رضي الله عنه إقامة الحد عليها فاستشار في ذلك الصحابة رضوان الله عليهم فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يدرأ عنها الحد لأنها كالمستكرهة.
كما أن عمر رضي الله عنه قد استشار الصحابة في جلد قدامة بن مظعون لما شرب الخمر وتأول الآية: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، وإنما استشارهم لكونه كان مريضاً فأشاروا عليه بالتأجيل حتى يشفى ليحتمل الضرب ثم تركه ثم استشارهم فأشاروا عليه بالتأخير ثم عزم على جلده بسوط وقال: إنه والله أن يلقى الله تحت السياط أحب إلي أن ألقى الله وهو في عنقي.
ويستفاد من هذه الشواهد التي سقناها أنه يجب على القضاة وولاة الأمر أن يحرصوا على إكثار العلماء في مجالسهم لما في ذلك من إمكان استحضار بعضهم الدليل الذي يقطع الخلاف، فالقضاة مهما كانت ثقافتهم قد يغيب عنهم الدليل على المسألة من الكتاب أو السنة أو النصوص القانونية، ولأن النصوص الشرعية والقانونية قد تعطي أكثر من مدلول، ولهذا فإن الإمام الجليل عبدالحق بن عطية المالكي اعتبرها من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، وأن من تركها من الولاة فقد وجب عزله.
قال ابن عطية: والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا ما لا خلاف فيه.
ووجوب الشورى هو مذهب الجصاص من أئمة المذهب الحنفي كما سيأتي تفصيله قريباً.
وقد رجح الدكتور قحطان الدوري أن الشورى تكون واجبة في مواضع ومندوبة في مواضع، فالمواضع الواجبة فيها هي الأمور ذات الطابع العام والتي لها من الأهمية والخطورة الشيء الكثير كإعلان الحرب وسن القوانين، والأمور التي يندب للإمام الاستشارة فيها هي الأمور الخاصة والتي يرى أن مصلحة الأمة البت فيها بسرعة.
وقد استشار عمر رضي الله عنه في قسمة الأراضي- أي أرض الخراج التي فتحت عنوة- ومن المعلوم أن الأرض إذا فتحت عنوة أنها تقسم أخماساً فخمس لبيت المال يصرف في وجوهه المعروفة، وأربعة أخماس توزع بين الغانمين لوجود نص في ذلك وهو قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} غير أن عمر رضي الله عنه فهم من سورة الحشر من آية الفيء وما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} أن لكل هؤلاء نصيباً، فلو قسمت الأراضي على الغانمين لم يكن لهم نصيب وقد رأى عامة الصحابة أن يقسمها وكان أشدهم في ذلك بلال بن رباح رضي الله عنه وتلا قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} الآية، قال هذه عامة في القرى كلها ثم قال: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} الآية، ثم لم يرض حتى خلط بهم غيرهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {إِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فكانت هذه عامة للمقاتلين وغيرهم إلى يوم القيامة فيأتي من بعدهم فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت وورثت عن الآباء وحيزت ما هذا بالرأي، فقال عبدالرحمن بن عوف: فما الرأي ما الأرض والعلوج إلا مما أفاء الله عليهم فقال عمر: ما هو إلا كما تقول ولست أرى ذلك، والله لا يفتح بعدي بلد يكون كثير نبل بل عسى أن يكون كلاً من المسلمين فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها وأرض الشام بعلوجها فما يسد الثغور وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وغيره من أهل الشام والعراق، فأكثروا على عمر فقالوا أتنفق ما أفاء الله علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا ولم يشهدوا ولا أبناء القوم ولا أبناء أبنائهم ولم يحضروا، فكان عمر لا يزيد على أن يقول هذا رأي، قالوا فاستشر فاستشار المهاجرين الأولين فاختلفوا، فأما عبدالرحمن بن عوف فكان رأيه أن تقسم لهم حقوقهم ورأى عثمان وعلي وطلحة وابن عمر رأي عمر فصرفهم، وأرسل إلى عشرة من الأنصار خمسة من الأوس وخمسة من الخزرج من كبرائهم وأشرافهم وعرض رأيه وحجته وقال: إني لم أزعجكم إلا لأن تشتركوا في أمانتي فيما حملته من أموركم فإني واحد منكم وأنتم اليوم تقرون بالحق، خالفني من خالفني ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا الذي هواي، معكم من الله كتاب ينطق بالحق فوالله لأن كنت نطقت بأمر أريده ما أريد به إلا الحق، قالوا نسمع يا أمير المؤمنين، قال: إني أعوذ بالله أن أركب ظالماً لأن كنت ظلمتهم شيئاً هو لهم وأعطيته غيرهم لقد شقيت ولكن رأيت أنه لم يبق شيء يفتح بعد أرض كسرى وقد غنمنا الله أموالهم وأرضهم وعلوجهم فقسمت ما غنموا من أموال بين أهله وأخرجت الخمس فوجهته على وجهه وأنا في توجيهه، وقد رأيت أن أحبس الأرض بعلوجها وأضع عليهم الخراج وفي رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئاً للمسلمين المقاتلة والذرية ولمن يأتي بعدهم، أرأيتم هذه الثغور لا بد لها من رجال يلزمونها، أرأيتم هذه المدن العظام كالشام والجزيرة والكوفة والبصرة ومصر لا بد من شحنها بالجند وإدرار العطاء عليهم فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمتم الأراضي والعلوج؟ فقالوا جميعاً: الرأي رأيك فنعما ما قلت ورأيت إن لم تشحن هذه الثغور وهذه المدن بالرجال وتجري عليهم ما يتقوون به رحل أهل الكفر إلى مدنهم. فقال قد بان لي الأمر فمن رجل له جزالة عقل يضع الأرض مواضعها، ويضع العلوج ما يحتملون فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف وقالوا تبعثه إلى أهم من ذلك فإن له بصراً وعقلاً وتجربة فأسرع إليه عمر فولاه ساحات أرض السواد.
لقد أوردنا هذا النموذج من الشورى في عصر الصحابة لندلك على أن الشورى لا غنى عنها في شتى مناحي الحياة، وأنه قد يحصل الخلاف حتى في فهم النصوص وأن التزام الجميع بالمنهج الرباني لا يتأتى دون التشاور وأن ولي الأمر والقاضي المجتهد لا بد له من إعمال النظر. ويقول الدكتور عدنان النحوي في هذه الممارسة: وهكذا في الموقف الدقيق دارت الشورى بأوسع ميادينها وأزكى ممارساتها وأطهر نتائجها، ولقد مارس المسلمون في هذه القضية إيمانهم كله وعلمهم كله ولم يمارسوا جزئية واحدة فحسب بل مارسوا إيمانهم وعملهم على تناسق وتكامل على حب وصفاء على قوة ومضاء، وبقوا صفاً وأمة واحدة وحزباً واحداً فرضي الله عنهم أجمعين.
وقد روى وكيع عن عمر بن عبدالعزيز قولاً جاء فيه (إن القاضي ينبغي أن يكون فيه خمس خصال فإن نقصت واحدة كانت وصمة، العلم بما قبله، والحكم عند الخصم، والنزاهة عند المطمع، والاحتمال للأئمة، ومشاورة ذوي العلم) وفي وكيع أيضاً عن المغيرة بن محمد بن عبدالعزيز (لا ينبغي أن يكون الرجل قاضياً حتى تكون فيه خمس خصال يكون عالماً قبل أن يستعمل مشيراً لأهل العلم ملقياً للرفع منصفاً للخصم محتملاً للأمة).
وفي تذكرة ابن حمدون أن الرشيد أحضر رجلاً ليوليه القضاء فقال إني لا أحسن القضاء ولا أنا فقيه، فقال الرشيد: فيك ثلاث خلال لك شرف والشرف يمنع صاحبه من الدناءة ولك حلم يمنعك من العجلة ومن لم يعجل قل خطؤه وأنت رجل تشاور في أمرك ومن تشاور كثر صوابه، وأما الفقه فسيضم لك من تتفقه به.
وفي أخبار القضاة لوكيع نص كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة جاء فيه: أما بعد فإن رأس القضاء اتباع ما في كتاب الله ثم ما في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم حكم الأئمة الهداة ثم استشارة ذوي الرأي والعلم، وفي تاريخ ابن عساكر في وصية عمر رضي الله عنه إلى شريح قال الشعبي: رزقه عمر مائة درهم على القضاء وقال له: اقض بما استبان لك من كتاب الله فإن لم تعلم كتاب الله كله فاقض بما استبان لك من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقض بما استبان لك من أمر الأئمة المهتدين فإن لم تعلم كل ما قضت به الأئمة المجتهدون فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم.
وروى وكيع أيضاً أن رجلاً جرح فأعطته امرأته جارية لها تخدمه فقال له ناس من أصحابه أتبيعها فقال: إني لا أملكها إنها لامرأتي فقالوا: إنك جائز الأمر فيها فأقامها فزاد على ما أعطاه رجل من القوم وأشهد لامرأته بثمانين من ماله فوقع عليها فرفعته المرأة إلى عمر بن الخطاب فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قال أصحابي أتبيعها. قلت: إنها لامرأتي فقالوا إنك جائز الأمر فيها فأقمتها فزدت على ما أعطى رجل منهم فأشهدت لها في مالي فقال: اذهب فاستشار أصحابه فلم يقل له يومه شيئاً فركب عمر ذات يوم فرأى ذلك الرجل فجلده مائة جلدة.
قال ظافر القاسمي بعد أن أورد هذه القصة وهذا يعني أن عمر رضي الله عنه استشار وأجمع الرأي على أن بيع المرء لنفسه مال غيره غير صحيح وأن وقوع الرجل على الجارية يستلزم الحد فأقامه عليه.
ونقل وكيع برواية عبدالرحمن بن سعيد قال: رأيت عثمان بن عفان في المسجد إذا جاءه الخصمان قال لهذا اذهب فادع علياً وللآخر اذهب فادع طلحة بن عبيدالله والزبير وعبدالرحمن فجاءوا فجلسوا فقال لهما تكلما ثم يقبل عليهم (أي المستشارين) فيقول أشيروا علي فإن قالوا ما يوافق رأيه أمضاه عليهما وإلا نظر فيقومون مسلمين، وعلى هذا النحو نشأت شورى القضاء منذ فجر الإسلام أيام الراشدين فلم نجد أحداً منهم يستحيي من الاستشارة لا أبا بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم وفي ترجمة شريح عند وكيع عن الشعبي قال: كان شريح يشاور مسروقاً وقد علمت أن شريحاً كان قاضياً لعمر بن الخطاب وروت كتب التراجم أن مسروقاً كان أعلم بالفتيا من شريح وأن شريحاً أبصر منه بالقضاء وكانت القضاة لا تستغني أن يجلس إليهم بعض العلماء، وفي سنة 192هـ ولّى الرشيد عبدالله بن سوار على البصرة وما يحسن شيئاً كما يقول وكيع ولكنه كان ذا عقل وفهم فكان يشاور فلم يُر في القضاء أحد هو أصح سجلات منه لأنه لم يكن ينفذ شيئاً إلا بمشورة.
وفي طبقات ابن سعد عن مالك بن أنس قال كان عمر بن عبدالعزيز لا يقضي بقضاء حتى يسأل سعيد بن المسيب فأرسل إليه إنساناً يسأله فدعاه فجاء حتى دخل فقال عمر أخطأ الرسول إنما أرسلناه يسألك في مجلسك.
وفي ترجمة عبدالله بن أبي مليكه عند ابن سعد أيضاً قال: بعثني عبدالله بن الزبير على قضاء الطائف فقلت لابن عباس: إن هذا قد بعثني على قضاء الطائف ولا غنى بي عنك أن أسالك فقال لي: نعم. قال فاكتب إلي فيما بدا لك أو اسأل عما بدا لك. وفي رفع الأسرار لابن حجر في ترجمة أبي العباس بن أبي العوام السعدي ذكر لرجل مكفوف اسمه أبو الفضل جعفر وأنه (احكم له الأمر مع الحاكم فأمر بكتب سجله وشرط عليه فيه أنه إذا جلس في مجلس الحكم يكون معه أربعة من فقهاء الحاكم لئلا يقع الحكم بغير ما يذهب إليه الخليفة)، قال ظافر القاسمي وهذا النص يدل فيما أظن على أن الفقهاء الأربعة رقباء وليس لهم أن يشتركوا في الحكم ولكن إذا رأوا أن القاضي أراد الخروج عن مذهب الخليفة ردوه إليه.
قلت وفي حضور الفقهاء والعلماء مجلس قضاء القاضي فوائد جمة، ولو لم يكن إلا الاستشارة، ولا شك أن من شاور كثر صوابه، فما تشاور قوم إلا هُدُوا لأرشد أمرهم كما في السنة النبوية، وإذا كان التشاور في الأمور العامة هو ضرورة من الضرورات فإنه مما لا شك فيه أن القضاء من الأمور الهامة التي ينبغي ألا تغيب فيها الشورى، ولو لم يكن في ذلك إلا الاتباع لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء بسيرة الخلفاء الراشدين وأهل الفضل والعلم من أهل التقوى في هذه الأمة، إلا أن المشير في أمور القضاء يجب أن يكون من أهل العلم بأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المنظمة وأهل الفطنة والتقى فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو المعني بالتبليغ والبيان والمثبَّت بالوحي كثير التشاور حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبهذا العرض نكون قد أتينا على بيان أن الشورى قاعدة من قواعد نظام الحكم والقضاء في الدولة الإسلامية وغني عن البيان القول بأن الشورى تشمل جميع الشئون العامة، إلا أنه مما ينبغي التفطن له هو أنه لا تشاور فيما فيه نص صحيح صريح في أحكام الشريعة الإسلامية ولا إشكال في منطوقه ولا مفهومه ولا اختلاف في فهمه لأن ذلك مما لا يحتاج إلى تشاور، وكذلك ما لا لبس فيه في أي واقعة تطرح على القضاء ولا لبس فيها لا في الأدلة المثبتة لها ولا في حكم الشرع والقانون العادل فيها، إلا أن المشتبهات وتباين الفهم في كثير من الحالات مما يتطلب الاستشارة وعدم الاستبداد بالرأي بل إن ذلك ضرورة لا بد منها لمن أراد أن يقتدي بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، ولا عيب في ذلك ولا نقيصة، ولو لم يكن في ذلك إلا دفع التهمة عن القاضي بأنه يجامل أو يحابي أو يرتشي أو يحكم بغير الحق وهذا نظام المحلفين في إنجلترا وأمريكا يشكل معلماً من معالم النظام القانوني هناك، ولم يعتبروه عيباً، وقد رسم هذا النظام طابعه على التقاضي في إنجلترا وأمريكا وصار جزءاً من نظام القانون العام منذ حوالي سنة 1172م وأثناء حكم هنري الثاني الذي اعترف به كما اعترف به (ماجلانا كارتا) سنة 1215م، ومنذ ذلك التاريخ استقر معيار الاثني عشر محلفاً، وجوهر فكرة المحلفين وتحديد التهمة على أيديهم هي وسيلة إدخال الجمهور في العملية القضائية.